أشرع في قراءة روايتين بالتوازي؛ رواية فانتازيا ورواية واقعية. عالمان مختلفان. لا أجدني إلا أسرع في قراءتي للفنتازيا وأقفز بين الصفحات بكل استمتاع، وهذا بحكم معرفتي بهذا العالم، وأنا أعرف جيدًا أن هذا العالم ليس صالحًا للاستقرار، بل هو عالم للمغامرات أو ملجأ ومكان للهروب من واقع مزعج قد لا يسع الحالمين غير الواقعيين غير القادرين على مواجهة تحديات الواقع.
في المقابل أقرأ الرواية الواقعية “كل ما أعرف” ببطء شديد، لأنها تحاكي أحداث حياتنا الواقعية التي نهرب منها. ببساطة “كل ما أعرف” نص يجبرني على أن أطرح على نفسي أسئلة حرصتُ كثيرًا على تجاهلها. ولهذا أستغرق في قراءة القليل من الصفحات في نص “كل ما أعرف” ضعف الوقت الذي أستغرقه في قراءتي لنصوص الفنتازيا المثيرة.
لا أقصد بهذه المقارنة تفضيل لون أدبي على آخر، أنا فقط أحاول توضيح سبب سرعتي في التهام نص وبطء عقلي في استيعاب تفاصيل نص آخر رغم أن النصان باللغة نفسها. لذا تركت الكتاب الفنتازي جنبًا وركزت اهتمامي على “كل ما أعرف”.
كلما قرأت نصًا واقعيًا أتذكر تلك المزحة المخيفة: “نحن ننام لأن المحاكاة المسئولة عن تشغيل كوكب الأرض ليس لديها ما يكفي من الطاقة لمعالجة كل الكائنات الحية وتنظيمها دفعة واحدة”. ربما الواقع الذي نعيشه ضرب من ضروب الفانتازيا ونحن لا ندرك ذلك، ومن هنا أعود مجددًا للواقع وأتعاطى معه كما لو كان نص خيال علمي مثيرًا.
بدايةً غلاف رواية “كل ما أعرف”، من تصميم عبدالرحمن الصواف، قادر بكل تفاصيله ووجوهه وألوانه على نقل القارئ إلى مساحة تخيل كبيرة. وجه مركزي ويحوم حوله وجوه أو ربما هذه الوجوه ولدت من الوجه المركزي، فالأفكار تولد من الأفكار والخيال أيضًا يولد الخيال. كما تقول صديقة لي: “الغلاف الرائع يتركني أتنزه داخل نص ملغز، وهذا عرض لا يفوت”. يعبر اللون الأزرق ودرجاته عن الخيال والمساحات الشاسعة، كما يرتبط عند الكثيرين بالثقة والإخلاص.
هل يخبرنا علي قطب على لسان أبطاله بكل ما يعرف؟
طرحت شخصيات “كل ما أعرف” عددًا لا بأس به من الأسئلة التي يطرحها القراء عامةً، والقراء من جيل الكاتب خاصةً، أي مواليد التسعينات. ومثل الممثل المحترف في العمل السينمائي الجيد-لا يوجه للمشاهدين النصائح المباشرة- تطرح شخصيات الرواية تساؤلاتها من خلال المواقف: هل يعاني جيلي وجيل الكاتب من فراغ نفسي؟ هل كل أحلامنا الكبيرة ستغدو ضئيلة في يومٍ ما؟ هل يبحث جيلنا عن شخص نلقي عليه بمسئولية فشلنا؟ هل الآخر ليس سيئًا بقدر ما نصوره نحن بالسوء؟ هل نكسب أهميتنا من وجودنا مع الآخر؟ هل غربتنا وعزلتنا من اختيارنا؟ هل تمنحنا معرفتنا القوة لمواجهة مخاوفنا؟
نجح الكاتب في روايته أن يجذبني ويدفعني للاستمرار في القراءة لتمكنه من أدواته؛ البراعة في اختيار كلمات الإهداء، الاقتباسات الذكية (أبو نواس ونجيب محفوظ)، البنية السباعية (تتكون الرواية من سبعة فصول، كل فصل يحمل اسم شخصية من الشخصيات: أحمد علي، أحمد محفوظ، ياسر الغنام، غدير، ياسر الغنام، أحمد محفوظ، أحمد علي)، المشاهد السينمائية المرسومة ببراعة…
لا يسع القارئ إلا أن يتأمل كثيرًا في اقتباس الكاتب لأبي نواس “والموت بعض حبائل الأهواء”، ثم يفيق من تأمله ليقع في فخ الاقتباس الثاني لنجيب محفوظ: “تذكرتُ ملاعب الرومان ومحاكم التفتيش وجنون الأباطرة. تذكرت سيَر المجرمين وملاحم العذاب وبراكين القلوب السود معارك الغابات. وقلت لنفسي مستعيذًا من ذكرياتي إن الدناصير استأثرت بالأرض ملايين السنين…”.
جاءت صور الكاتب وتشبيهاته مختلفة وغير مبتذلة: “مثلك كمثل غدير التي كلما ذقتها زاد احتياجي لها، فكانت كماء مالح لا يروي عطشًا”، “تعرف ما أعانيه بسبب ذلك الشخص، فتقصد فتح الجرح كحلاق صحة غشيم”… .
أعجبني طرح علي قطب لجانب من حياة المؤلفين والكتابة. أتمثل الكتابة خيانة؟ هل الكاتب الجيد في حاجة لمعايشة معاناة ما كي يبدع؟ هل يحتاج الكاتب شخصًا محرضًا لفعل الكتابة (د. رافي)؟ هل المبدع أناني؟ وهل يمكن للمبدع أن يحاكي الخالق ويخلق عالمًا يستحق أن نمنحه من وقتنا ونقرأه؟
ومن أدوات الكاتب في روايته نسجه النص في شكل مشاهد سينمائية. فضلتُ منها المشاهد السريعة التي تظهر فيها شخصيات الرواية بالتوالي حيث يتخيل “أحمد علي” أكثر من سيناريو لحكايته في محاولة منه لإعادة رسمها. لا يسعني وأنا أقرأ هذا الجزء من النص إلا أن أتخيل نفسي أشاهد فيلمًا بعنوان “كل ما أعرف”.
ليس بالضرورة أن تكون الروايات الواقعية مملة كواقعنا. يمكن للكاتب أن يعرض نصه مستخدمًا أدوات الإثارة والتشويق في الصياغة ورسم شخصياته وتناول الموتيفات التي تلمس القارئ وتشعره بتشابه عوالمنا الداخلية.
أترك لكم هنا بعض المقتطفات من رواية “كل ما أعرف”، للكاتب علي قطب، والصادرة عن دار العين 2021.
“بالأمس عزمت على الانتحار وإن حيرتني الطريقة، تمنيت نهاية غير مؤلمة فلم أجد لها سبيلًا، تخيلتكم جميعًا بعد وفاتي فرأيتكم غير مكترثين فعدلت عن الفكرة، الأفضل أن أظل هنا ربما يأتي اليوم الذي أجذب فيه انتباهكم، حينها ستكون النهاية لا محالة.”
“أعطى علي لنفسه الحق في اكتساب صفة من خالقه، صنع حياة ودفعنا فيها ثم مكث يراقبنا، اعتبر ما حدث نوعًا من التماهي، ضايقني جدًا ما فعله، كيف أقام نفسه حكمًا وجرني إلى ما لم أتوقع. لا يمكن أن تضع إنسانًا تحت طائلة الحاجة ثم تحاسبه على تصرفاته، أنت من رغبت في الخيانة وليس أنا؛ لذا أجردك من حق محاسبتي، وأرى نفسي أتخلص منك بعد بضع خطوات.”
“أنا أهم أسباب وقوع غدير في خطيئة الخيانة، استمتعتُ برؤيتها غير قادرة على التصرف، وعندما أحست أنها أصبحت لعبة غير مسلية بين يدي قررت أن تلعب معي لكن وفق قوانينها الخاصة هذه المرة فخانت غير آسفة.”
التصنيفات: مراجعات كتب
كتب لن تندم على شرائها